Friday 9 December 2016

ازمة سعر الصرف في مصر 2016... رؤية في المسببات والحلول المقترحة (3)




الجزء الثاني: التعويــــم واثــــــــــاره (2)

   بقلم .... اقتصادي حر

   بدائنا اول حلقات هذه السلسلة من المقالات باستعراض ما هي مسببات الازمة الراهنة لسعر الصرف في مصر وكيف ان العجز المالي الخارجي والداخلي بالإضافة الى غياب السياسة النقدية أسهم في تفاقم الازمة. في المقالة الثانية تناولنا ماهي القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة المصرية مع البنك المركزي وأهمها قرار تحرير سعر صرف الجنيه المصري امام العملات الأجنبية، ثم تحليل فلسفه هذه القرارات ومدى توافقها مع الواقع الراهن للاقتصاد. واليوم في هذا الجزء سنبدأ في توضيح ما هي الاثار الاقتصادية لقرار التعويم وتحديدا في الاجل القصير، حيث انه من المبكر التوقع بما سيحدث في الاجل الطويل في اقتصاد غير مستقر يمر بتقلبات حاده مما تؤثر على دقه التنبؤ المستقبلي.
   كما فهمنا في المقال السابق ان لقرار التعويم اثار ايجابيه هامة أهمها على الاطلاق وقف نزيف الاحتياطي النقدي والى حد ما تقليل المضاربات على العملة المحلية والذي هو داء قاتل إذا أصاب أي عمله. كما اننا لا نستطيع ان ننكر ان تخفيض قيمه العملة قد يؤدى الى زيادة الصادرات ويساعد على تنشيط تدفقات الاستثمارات الأجنبية والسياحة الخارجية الوافدة إلى مصر، لأن تخفيض العملة المحلية يؤدي إلى زيادة القدرات الشرائية للعملات الأجنبية التي بحوزة السياح والمستثمرين الأجانب. الا ان كل هذه الاثار مرهونة على كفاءه الادارة الاقتصادية من ناحية والاستقرار السياسي والأمني وصوره مصر الخارجية من ناحية أخرى، كما ان هذه النتائج إذا تحققت سوف تظهر في الاجل المتوسط او الطويل. اما عن الاجل القصير فالأثار الاقتصادية أضحت واضحة امام الجميع فبعضها بدا بالفعل والبعض الاخر في طريقه للظهور وفيما يلي اهم هذه الاثار: 

أولا: ارتفـــــــــــــــاع الأسعار (التضخم)
يعد الأثر المؤكد والأول لتخفيض سعر صرف الجنيه المصري هو ارتفاع أسعار السلع المستوردة مقدرة بالجنيه المصري أي موجة ارتفاع عامة في أسعار كل السلع وهو ما حدث فعليا، هذه الموجه بدأت بالفعل منذ ان تركت السلطة النقدية لاتساع فجوة الطلب على الدولار بفعل المضاربة. فمنذ 3 شهور او أكثر قليلا لا حديث للمواطن الا عن اختفاء السلع او ارتفاع اثمانها في الأسواق ابتداءً من سلعة السكر والفول وصولا الى المضادات الحيوية الطبية. تأخر الحكومة في اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح أدى كما سلف الشرح الى حالة انفلات عام بلا رقيب او حسيب، فعلم الجميع بالظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد وتحديدا نقص المتاح من العملة الأجنبية وانخفاض الاحتياطي؛ اعلم الجميع بدون اذن الحكومة ان التعويم قادم قادم وان تخفيض العملة أصبح امر واقع وان القرار الرسمي سيتخذ عاجلا ام اجلا. ومع طول هذا الوقت ازدادت المرهنات ومعها عمليات شراء وتخزين واسعه النطاق لكل السلع.
وفقا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء فان معدلات التضخم في مصر قد قفزت إلى 16.4% خلال أغسطس الماضي، مقابل 14.8% في الشهر السابق عليه، ومؤخرا قفز معدل التضخم السنوي الإجمالي في مصر خلال نوفمبر 2016 إلى 20.2% مقابل 14% في أكتوبر من نفس العام. مما يعد أعلى معدل ارتفاع منذ عام 2008.كما انه وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي و تقديرات  EIU في تقرير " World economic outlook " ارتفاع معدل أسعار المستهلك CPI في مصر إلى 22.2% خلال العام المالي الجاري، مقابل توقعات سابقة بلغت 9.5% في ذات التقرير الصادر في أبريل الماضي. ومن المرجح أن يرتفع المعدل ليتراوح بين 20% الى 25% بعد تعويم الجنيه وانخفاضه في السوق الرسمية. ووفقا لأخر تقرير للبنك المركزي "أكتوبر 2016" فان كل انخفاض في قيمة الجنيه بنسبة 10% إلى زيادة التضخم بنسبة تتراوح بين 1.5% إلى 2% بسبب اعتماد مصر على الاستيراد.
ان السبب الرئيسي لهذه الزيادة في الأسعار هو ان قبل القرار كان لدينا في مصر نظامين لاستيراد ، نظام لاستيراد السلع الأساسية والغذائية تموله البنوك بالسعر الرسمي، ونظام لا تموله البنوك للسلع الأخرى والذى يتعامل بسعر السوق الموازية، ومن هنا فإن سلع مثل الزيت والسكر والذرة واللحوم والدواجن والدواء والكيماويات الخاصة بالدواء والمنتجات البترولية والمواد الخام وقطع الغيار وآلات ومعدات الإنتاج، التي كانت حتى الثاني من نوفمبر تحصل على الدولار بسعر 8.88 جنيه، ستحصل عليه من البنك بسعر يتراوح بين 16 الى 18 جنيه، أي بنسبة زيادة تصل الى 110 % خلال يوم واحد، و هذا ما انعكس على الأسواق مباشرا بالإضافة الى الممارسات الاحتكارية في مختلف السلع و غياب تام للرقابة و تنظيم الأسواق من قبل مؤسسات الدولة ، اوصلنا الى الوضع الراهن .

ثانيا: انخفاض الدخول الحقيقية وزيادة معدلات الفقر
الأثر الثاني والمترتب على الأثر الأول هو ان ارتفاع معدل التضخم بهذه الدرجة سوف يؤثر بصورة موجعة على الفقراء والطبقة الوسطى وتحديدا لكل أصحاب حقوق العمل أي من يعملون بأجر ثابت مهما كبر هذا الاجر، حيث ترتفع أجورهم بمعدلات تقل عن معدلات ارتفاع الأسعار فتتآكل القدرة الشرائية لرواتبهم وتتراجع مستويات معيشتهم. يضاف الى ذلك فان أي موجة تضخمية تعيد توزيع الدخل والثروة لصالح أصحاب حقوق الملكية الذين ترتفع أسعار ملكياتهم، على حساب أصحاب حقوق العمل ممن يتلقون الأجور والرواتب التي لا تزيد إلا بمعدلات تقل عن معدلات التضخم. وهذا يعني إجمالا أن تخفيض سعر صرف الجنيه المصري في الوضع الراهن للاقتصاد المصري سيؤدي لزيادة الأسعار وتآكل الأجور الحقيقية.
هذه الحقيقة تؤدى بشكل رئيسي الى ارتفاع معدلات الفقر والتي بلغت معدلات قياسية، فوفقا الى اخر تقرير للجهاز المركزي للإحصاء فإن نسبة الفقراء زادت من 16.7% عام 2000 إلى 21.6% عام 2009، ثم 25.2% في 2011، ثم 27.8% في 2015 أي أكثر من 25 مليون مواطن، كما ارتفع نسبة الفقر المدقع لعام 2015 لتصل إلى 5.3% من السكان. وذكر التقرير أن قيمة متوسط خط الفقر للفرد في الشهر لا تتجاوز 322 جنيهاً عام 2015، بينما وصلت قيمة متوسط خط الفقر الكلى للسكان 482 جنيهاً شهرياً. وهذا المبلغ بعد القرارات الأخيرة فقد حوالي نصف قيمته الشرائية بعد التطورات الاخيرة، وان 60% من هؤلاء في ريف صعيد مصر ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من السلع الغذائية وغير الغذائية، وان 81.8% من الفقراء لا يستفيدون من التأمينات الاجتماعية وهنا نصل الى فكره الدعم ومستحقيه.
وتأتى هذا الإحصاءات عن الفقر تتسق تماما مع تقرير الثروات العالمي الذي يشير إلى أن أغنى 10% من السكان الراشدين في مصر كانوا يملكون نحو 61% من الثروة في مصر عام 2000، وارتفعت حصتهم إلى 65,3% عام 2007، ثم إلى 73,3% من إجمالي الثروات في مصر عام 2014. وهذا النمط من الاستحواذ على الثروات يضع مصر بين الدول الأكثر سوءا في توزيع الثروات مقتربة من النموذج الأمريكي الذي يستحوذ فيه أغنى 10% من الراشدين على قرابة 75% من الثروة الأمريكية، والنموذج التركي الذي يستحوذ فيه أغنى 10% من الراشدين على 77,7% من الثروة التركية مع الاخذ في الاعتبار حجم الدخل القومي في هذه البلد وحجم الدخل في مصر. وبالتالي فإن الأثرياء من هذه الشريحة لا يفرق معهم ارتفاع أسعار السلع الترفيه أو الكمالية وسيستمرون في استهلاكها مهما كانت أسعارها بما يؤثر سلبيا على فعالية تخفيض الجنيه مقابل الدولار في تقليص الواردات، إلا إذا تم الترشيد بقرارات سيادية. يساعد في ذلك فرض ضريبة القيمة المضافة مؤخرا وهي عبارة عن توسيع لضريبة المبيعات، وهي ضريبة مباشرة يقع عبئها على الفئات الأقل فقرا، في الوقت نفسه خفضت الضريبة التي كانت موضوعة على أعلى شرائح الدخل من 25% لـ 22.5.


ثالثا: اثــــار رفع سعـــــر الفائــــدة
ان أثر رفع سعر الفائدة له اثار سلبيه عديده على الاقتصاد المصري هي على الأقل في الاجل القصير لكنى اعتقد انها ستستمر كذلك في الاجل المتوسط أيضا ومن هذه الاثار:
·        ارتفاع أعباء جديدة على خدمة الدين العام بما يصل إلى 70 مليار جنيه على الأقل، وذلك بسبب ان الحكومة هي أكبر مستدين من البنوك. وإذا اخذنا في اعتبارنا ان هذه الأعباء في الأساس تبلغ هذا العام نحو 293 مليار جنيه لتمثل 36% من الانفاق، فإننا امام مشكله أخرى أكثر تعقيدا خاصا في ظل اعلان من الحكومة متكرر على خفض العجز الداخلي.
·        صاحب قرار رفع الفائدة قيام بنك مصر والبنك الأهلي اصدار شهادات ادخارية بسعر فائدة يصل الى 20%، ترتب على ذلك هجوم كاسح من الأفراد والشركات على باقي البنوك وسحب مئات الملايين من الودائع لتحويلها إلى الشهادات الجديدة، حيث بلغت حصيلة هذه الشهادات في البنك الأهلي وحده وبعد مرور 3 أسابيع فقط على إصدارها حتى الآن نحو 92 مليار جنيه.
وهو بالطبع مؤشر واضح في دلالته على حجم المدخرات في الاقتصاد المصري، والتي تمثل مصدر التسرب من دورة الدخل، ويعد امر طبيعي أن يلجأ أصحاب الفوائض المالية إلى الاستفادة من معدلات الفائدة المرتفعة، التي تمثل لهم استثماراً آمناً عديم المخاطر. وإذا نظرنا أكثر عمقا فان هذه المليارات لم تأتى من السماء او "من تحت البلاطة" كما يتحدث الكثيرون. بل ان أغلب هذه الأرصدة تحويلات من حسابات أوعية أخرى من هذه البنوك ومن البنوك الأخرى. وذلك يرجع الى ان سعر الفائدة على الأوعية الادخارية العادية " دفتر التوفير" كان في المتوسط 6% ثم أصبح بعد القرار 9%، في المقابل العائد من الشهادات 20%، وهو ما فتح شهيه المودعون الى تحويل جزء كبير من ارصدتهم الى شهادات بل الى ان عدد كبير قام بكسر ودائع طويله الاجل ودفع غرامه لذلك في مقابل فتح الشهادات الجديدة لان العائد القادم منها يحقق مكسب حتى بعد دفع غرامة كسر الوديعة. وما يؤكد هذا قيام عدد كبير من حاملين شهادات قناة السويس الى رد الشهادات ذات 12% عائد قبل موعدها للحصول على الشهادات الجديدة، وهو ما دفع المسؤولين الى رفع العائد على شهادات قناة السويس الى 15.5% رغم مخالفته للأعراف المصرفية، حيث ان العائد من الشهادة يحدد مسبقا قبل الشراء ولا يتغير. ولكن بالطبع عمليات البيع الواسعة للشهادات دفع الى رفع العائد عليها. كما ان بيانات البنك المركزي في تقريره القادم سوف تؤكد ذلك من خلال معدلات السيولة وحجم المدخرات و المعروفة اقتصاديا M1 , M2 , M3 .
·        ارتباطا بالنقطة السابقة، فان سعر الفائدة بهذا التصرف لم ترتفع على الودائع 3% فقط بل ارتفعت في الواقع بمقدار 8%" في المتوسط، وهو ارتفاع تاريخي سيؤدي لحدوث حالة من التغيير الكامل لاستثمارات البنوك خلال الفترة القادمة هذا بخلاف أن ارتفاع أسعار الفوائد على الودائع بهذا الشكل سيرفع من نسبة المخاطر على استثمارات البنوك خصوصاً في مجال منح الائتمان. وخلال الفترة القادمة ومع استمرار قيام البنوك في قبول إصدار شهادات ادخار بفائدة 20%، و بدون اصدار قرارات تحفز البنوك على تقديم قروض تجزئة مصرفية، فمن المتوقع عزوف الشركات عن التقدم للحصول على قروض وتسهيلات ائتمانية من البنوك وبالتالي عدم إجراء أي توسعات للاستثمارات القائمة بمصر بل سيتجه بعض المستثمرين للإغلاق أو الحد وبشكل كبير من أنشطتهم والاعتماد على فوائد إيداعاتهم في البنوك لتسيير أعمالهم، وهو ما سيزيد من حالة الكساد بالسوق ويكون عاملاً شديد التأثير على أية استثمارات تفكر في الدخول للسوق المصرية. وهذا الوضع سيدفع البنوك دفعاً للاستثمار في أدوات الدين المحلي التي تعد أكثر أماناً.
هذا يرجعنا مره أخرى الى ما هي سياسات البنك المركزي في الفترة القادمة؟ كيف سيحقق المواءمة بين آثار الزيادة على الموازنة العامة وعجزها المتزايد، وخدمة الدين الحكومي، وبين التضخم والمحافظة على سعر الصرف كهدف رئيسي للبنك المركزي.

الخلاصة؛ إن الثلاثة اثار الأساسية المترتبة على القرارات الاقتصادية الأخيرة ستقود الاقتصاد المصري حتما الى اتجاه انكماشي مع دخوله الى دائرة مخيفة من الغلاء الفاحش تؤدى بالضرورة الى رفع معدلات الفقر وتآكل مدخرات المواطنين والإضرار بالعاملين وقيمة الدخل الحقيقي لهم، بالإضافة الى تقلص المحفظة الائتمانية للبنوك، وهو ما سيؤثر بقوة على قدرتها على تمويل المشروعات وتوفير القروض الاستثمارية والتجارية، وبالتبعية سيقود إلى تراجع مستوى الاقتصاد وتراجع مستويات المعيشة. وفي ظل هذا الركود التضخمي فإن الإجراءات التحفيزية اللازمة للخروج من الركود عادة ما تزيد من حدة التضخم، بينما الإجراءات الانكماشية اللازمة لكبح جماح التضخم عادة ما تزيد من عمق الركود.
وإذا كانت المسؤولية تقع على كاهل الحكومة والبنك المركزي في الاختيار بين محاربة الركود أو التضخم، وإذا كان البنك المركزي قد قرر انتهاج سياسة نقدية انكماشية متشددة للسيطرة على التضخم الناتج عن تحرير سعر الصرف ورفع أسعار الطاقة وما يستتبعه من ارتفاع أسعار السلع والخدمات المختلفة بشكل كبير. ورغم فشل هذه السياسة حتى الان في تحجيم التضخم الجامح، فهذه السياسة الانكماشية ستؤدى تراجع الاقتراض من البنوك وانخفاض استثمارات القطاع الخاص وهو ما سيؤدى إلى تراجع معدلات النمو وتعميق الركود وبالتالي انخفاض أرباح الشركات ودخل الأفراد وما يستتبعه من انخفاض الحصيلة الضريبية عن المتوقع. وإذا كانت الحكومة هي أيضا تعلن في كل محفل او اجتماع رسمي تبنى سياسة ماليه انكماشية وما هي الإجراءات التي تتخذها لتشديد حزم التقشف.
لذا فنحن امام حقيقة اقتصاديه شبه مؤكده هو ان الركود طويل الأجل سيكون نتيجة لا مفر منها. مع الاخذ في الاعتبار ان جزءا ليس بالقليل مما سيتم توفيره من رفع الدعم سيقابله ارتفاع في تكلفة خدمة الدين أي تحويل جزء من الإنفاق الحكومي من الفقراء الأكثر تأثرا بخفض الدعم للأغنياء الأكثر استفادة من ارتفاع سعر فائدة ودائع البنوك.
إذاً هل من مخرج من هذه الحلقة المفرغة؟ ام سنستمر من ركود الى كساد ومن تضخم مرتفع الى تضخم جامح؟ كيف يمكن التحكم في الاثار السلبية للقرارات الاقتصادية هذه؟ ما هو التصور الاقتصادي الصحيح للخروج من تلك الازمة؟ وهذا ما سوف نستعرضه في المقال التالي.


و للحديث بقيه،،،